الإيمان بالله
جل جلاله
قال تعالى: " وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ( التغابن ، آية : 11)
د. علي محمد محمد الصلابي
بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء
إلى كل إنسان في الوجود يبحث عن الطريق لمعرفة الله، والإيمان به وتحقيق عبوديته الشاملة على المنهج الصحيح أهدي هذا الكتاب سائلاً المولى عز وجلّ بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يكون خالصاً لوجه الكريم.
قال تعالى:" فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" (الكهف ، آية : 110).
د. علي محمد محمد الصلابي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" (آل عمران ، آية : 102).
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" (النساء ، آية : 1).
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" (الأحزاب ، آية : 70، 71).
يا رب لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى.
أما بعد:
هذا الكتاب يتحدث عن الخالق العظيم والرازق الكريم، الفعّال لما يريد، الكريم المنان، الواسع العليم، الذي رأيت من خلال مسيرتي في عالم التاريخ عظمته في الحياة، وفي قيام الدول وزوالها، وانتشار الحضارات وإندثارها، وعز الحكومات وإذلالها وقصص الناس ، وفي مخلوقاته العجيبة الغريبة وفي هذا الكون الفسيح وحركة التاريخ.
هذا الكتاب إنما كان نتاج هذه المسيرة، بل إحدى ثمارها حيث وجدت أن الذين أمنوا بالله العظيم واتبعوا رسوله الكريم هدى الله قلوبهم بل زادها إيمانا ، لقد عرفوا ربهم وعلموا أن الله هو التواب الرحيم ذو الفضل العظيم، العزيز الحكيم الذي ابتلى إبراهيم بكلمات، وسمع نداء يونس في الظلمات، واستجاب لزكريا فوهبه على الكبر يحيى هادياً مهدياً، وحنّاناً من لدنه وكان تقيا.
الله الذي أزال الكرب عن أيوب وألان الحديد لداود وسخر الريح لسليمان، وفلق البحر لموسى، ورفع إليه عيسى، ونجّا هوداً وأهلك قومه، ونجّا صالحاً من الظالمين فأصبح قومه في دارهم جاثمين، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وفداء إسماعيل بذبح عظيم، وجعل عيسى وأمه آية للعالمين.
الله الذي أغرق فرعون وقومه ونجّاه ببدنه ليكون لمن خلقه آية، وخسف بقارون وداره الأرض، ونجّا يوسف من غيابت الجب وجعله على خزائن الأرض، ونصر نوحاً على القوم الكافرين ونجّاه وأهله من الكرب العظيم.
الله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، وأسعد وأشقى، وأوجد وأبلى، ورفع وخفض، وأعز وأذل، وأعطى ومنع.
هدى نوحاً وأضل ابنه، واختار ابراهيم وأبعد أباه، وأنقذ لوطاً وأهلك امرأته، ولعن فرعون وهدى زوجته، واصطفى محمد ومقت عمه وجعل من أنصار دعوته أبناء ألد خصومه، كخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، فسبحانه عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته .
الله جلّ وعلا الذي جمع في هذا الوجود بين الكمال والجمال وعنصر الجمال في هذا الكون مقصوداً قصداً، جمال مقصود وكمال بلا حدود، فرؤية الجمال على حقيقته لا تكون إلا حينما ينظر القلب بنور الله، فتتكشف له الأشياء عن جوهرها الجميلة وروائعها البديعة، ويتذكر الله كلما وقعت عينه أو حسه على شيء بديع، أو منظر حسن، فيحسن بالصلة ويشعر بالترابط بين المبدع وما أبدع والجميل وما جمّل والمحسن وما أحسن، ويرى من وراء هذا الجمال جمال الله وجلاله وكماله والقرآن الكريم يوقظ القلوب لتتبع مواضع الحسن وآيات الجمال في هذا الكون البديع " فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" (المؤمنون ، آية : 14)، "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ" (السجدة ، آية : 7)، وقال تعالى:" أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ" (ق ، آية : 6).
وتأمل كلمة" أَفَلَمْ يَنظُرُوا" إنه استفهام استنكاري لأولئك الذين لهم أعين لا يبصرون بها، وقلوب لا يفقهون بها، ولا يرون ذلك الجمال الساحر، والإبداع الأخاذ والحسن الجذّاب الذي يدل على رب العباد، ولذلك يكثر في القرآن الكريم الأمر بالنظر لأخذ العبرة، وللإحساس بالجمال:
قال تعالى:" أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ" (الأعراف ، آية : 185).
وقال تعالى:" فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (الروم ، آية : 50).
وقال تعالى:" قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (العنكبوت ، آية : 20).
قال تعالى:" فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا* فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا* وَعِنَبًا وَقَضْبًا* وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا* وَحَدَائِقَ غُلْبًا* وَفَاكِهَةً وَأَبًّا* مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ" (عبس ، آية : 24ـ 32).
وقال تعالى:" قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" (يونس ، آية : 101).
فأين الأعين الناظرة، والقلوب المبصرة، والأذهان المتوقدة، والفطرة السليمة، والمشاعر الحية، والأحاسيس المرهفة؟ يا الله ما أروع هذا الكون وما أجمل هذا الوجود، إن المتأمل فيه يبهر بجماله، وروعة نظامه وعظمة إحكامه كل شيء فيه جميل ليله ونهاره، صبحه ومساؤه، أرضه وسماؤه، بدره وشمسه، حرّه وبرده، غيمه وصحوه، أخضره وأغبره، جباله وتلاله ، سهوله ووديانه، بره وبحره، كل شيء جميل، وكل شيء بديع وكل شيء متقن، وكل شيء متناسق وكل شيء منتظم، وكل شيء بقدر، وكل شيء بإحكام، من الذرة الصغيرة إلى الجرم الكبير، ومن الخلية الساذجة إلى أعقد الأجسام.
أنظر إلى الإنسان وروعة خلقه، وتباين أجناسه وتعدد لغاته وإختلاف نغماته، فهو جلّ وعلا قد أحسن كل شيء خلقه ومن أحسن مخلوقاته وأجملها الإنسان" وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ" (التغابن ، آية : 3)، " يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ" (الإنفطار ، آية : 6ـ ، قال تعالى:" لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" (التين ، آية : 4).
أنظر إلى السماء وهيبتها والنجوم وفتنتها، والشمس وحسنها، والكواكب وروعتها، والبدر وإشراقه، والفضاء ورحابته، تأمل في السماء في ليلة حالكة وقد انتشرت فيها الكواكب وبثت فيها النجوم.
أنظر إلى الأرض كيف دحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها، هذه البحار، هذه الأنهار، هذا الليل، هذا الصبح، هذا الضياء، هذه الظلال، هذه السحب، هذا التناغم الساري في الوجود كله، هذا التناسق هذه الزهرة، هذه الوردة هذه الثمرة اليانعة، هذا اللبن السائغ، هذا الشهد المذاب، هذه النخلة هذه النحلة، هذه النملة هذه الدويبة الصغيرة المجهزة بالأرجل أو الشعيرات أو الملامسة والمرونة لتشق طريقها وتتعامل مع واقعها، هذه السمكة، هذا الطائر المغرد، والبلبل الشادي هذه الزاحفة، هذا الحيوان جمال لا ينفذ، وحسن لا ينتهي وقرة عين لا تنقطع ، " فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ* وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ* يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ " (الروم ، آية : 17ـ 19).
الله سبحانه إله واحد ليس له شريك، وليس له مثيل في ذاته أو صفاته أو أفعاله كل ما في الكون من إبداع ونظام وانسجام يدل على أن مبدعه ومدبره واحد ولو كان وراء هذا الكون أكثر من مدبر وأكثر من منظم لأختل نظامه، واضطربت سننه " لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ" (الأنبياء ، آية : 22).
وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله وأن الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عبّاد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن، من محبة الله والخضوع له والذل له، وكمال الإنقياد لطاعته وإخلاص العبادة له وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال والمنع والعطاء والحب والبغض وهو واحد سبحانه في ألوهيته فلا يستحق العبادة إلا هو ولا يجوز التوجه بخوف أو رجاء إلا إليه لا خشية إلا منه، ولا ذل إلا إليه، ولا طمع إلا في رحمته، ولا إعتماد إلا عليه ولا إنقياد إلا لحكمه .
الله كل الخلق مفتقرون إليه، قال تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ" (فاطر ، آية : 15).
قد يعطي الإنسان أموالاً وقد يمنح عقاراً، وقد يرزق عيالاً وقد يوهب جاهاً، وقد ينال منصباً عظيماً أو مركزاً كريماً أو زعامة عريضة، أو رياسة مكينة، قد يحف به الخدم ويحيط به الجند، وتحرسه الجيوش، ويرضخ له الناس وتذل له الرؤوس، وتدين له الشعوب ولكنه مع ذلك فقير إلى الله محتاج إلى مولاه .
الله، أسعد عباده بكتابه، وأبهج قلوبهم بكلامهم وأنار بصائرهم بقراءته، أكثرهم قراءة له من أشدّهم تعظيماً له، وأقربهم منزلة منه، أقربهم من كلامه، أقرؤهم لوحيه كلام معجز، وقرآن مبهج، وحبل متين، ونور مبين ينطق بالعظمة ويهتف بالإبداع، ويصدح بالألوهية يشهد للربوبية .
قال تعالى:" اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" (الزمر ، آية : 23).
وجود الله جلّ وعلا أمر ثابت في الأنفس، متمكن في الفطر، مزروع في الأذهان، مغروس في الأفئدة لا يحتاج إلى دليل ولا يتطلب إثبات، ولا يفتقر إلى تأكيد.
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
ولكن بعض ذوي الفطر المنكوسة والأنفس المريضة، والعقليات المتعنتة قد يجادلون في ذلك مع أنه مغروس في حقيقة ضمائرهم " وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ" (النمل ، آية : 14).
وجاء القرآن الكريم مزدهراً بآيات تنطق بالعظمة وتشهد بالربوبية، تسُر أنفس الواثقين، وتدحض مزاعم المارقين " أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ" (الطور ، آية : 35).
وقد تعرض أنبياء الله وأمناء الوحي وحملة الدعوة ومصابيح الدجى وأنصار التوحيد، تعرضوا لعدد من المتعنتين على مرّ العصور مع اختلاف في طبقاتهم وتباين في تفنناتهم إلا أن بعضهم وصل به الأمر أن ادعى أنه رب العالمين فأيد الله أولياءه بحجج قاهرة ودلائل باهرة وأدلة قاصمة، وصواعق مرسلة تدمر أباطيلهم وتنسف إفتراءاتهم وتزلزل كياناتهم وتظهر سخف عقولهم وقلة فهمهم وانحطاط أمانيهم.
فهذا إبراهيم عليه السلام يحاور النمرود الذي طغى وتجبر وعتا وتكبر وادعى الربوبية من دون المولى عز وجل، قال تعالى:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (البقرة ، آية : 258).
فحينما أدلى إبراهيم بالدليل الأول على وجود الله تعالى وربوبيته فقال " رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ" قال النمرود: وأنا أحيي وأميت أي أنه إذا أتى بالرجلين قد تحتم قتلهما فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر فكأنه قد أحياه وأمات الآخر، وهذه حجة واهية ورد سخيف، ولكن إبراهيم عليه السلام، تدرج معه في المحاجة فأتاه بالضربة القاضية والحجة الدامغة فقال:" فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ" : أي هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيّرها وقاهرها وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء، فإن كنت كما زعمت أنك تحيي وتميت فأت بهذه الشمس من المغرب، فإن الذي يحيي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا يمانع ولا يغالب بل قد قهر كل شيء، ودان له كل شيء، فإن كنت كما تزعم فأفعل هذا فإن لم تفعله فلست كما زعمت وأنت تعلم وكل أحد انك لا تقدر على هذا ولم يبق للنمرود كلام يجيب فيه الخليل عليه الصلاة والسلام ، ولهذا قال تعالى:" فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ".
وقال الشاعر:
فيا عجباً كيف يعصي الإله
أم كيف يجحده الجاحد
والله في كل تحريكة
وفي كل تسكينة شاهد
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وما أجمل هذه الأبيات الرائعة التي قالها الشاعر إبراهيم بريول ـ رحمه الله:
إني أويت لكل مأوى في الحياة
فما رأيت أعز من مأواكا
وتلمست نفسي السبيل إلى النجاة
فلم تجد منجي سوى منجاكا
وبحثت عن سِرّ السعادة جاهداً
فوجدت هذا السر في تقواكا
فليرضى عني الناس أو فليسخطوا
أنا لم أعد أسعى لغير رضاكا
أدعوك يا ربي لتغفر حوبتي
وتعينني وتمدني بهداكا
فأقبل دعائي واستجب لرجائي
ما خاب يوماً من دعا ورجاكا
إلى أن قال:
يا أيها الإنسان مهلاً ما الذي
بالله جلّ جلاله أغراكا
فأسجد لمولاك القدير فإنما
لابد يوماً تنتهي دنياك
وتكون في يوم القيامة ماثلاً
تجزى بما قد قدّمته يداكا
إن حقائق الإسلام ثابتة لا تتغير منذ أنزلت على رسول الله صلى اله عليه وسلم إلى قيام الساعة، المرجع فيها هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولكن علماء الأمة في كل جيل ـ وطلاب العلم فيها ـ يتناولونها بالشرح والتفسير من خلال الواقع الذي يعيشه كل جيل، وما جدّ فيه من نوازل وما حدث فيه من انحراف في الفهم أو السلوك، وإن جيلنا الذي نعيش فيه لهو من أحوج الأجيال إلى التعرف على حقائق دينه وخصوصاً اركان الإيمان الستة وهذا الكتاب الذي بين يدي القارئ يتناول الركن الأول ((الإيمان بالله عز وجل)) وستلحقه بإذن الله تعالى دراسات أخرى في أركان الإيمان الستة، والأخلاق والتربية الروحية، والسنن الإلهية، ومقاصد الشريعة والسياسة الشرعية، وعلم المصالح والمفاسد وغيرها من الدراسات المنهجية الهادفة إلى المساهمة في نهضة الأمة وانطلاقتها الحضارية الجديدة المرتقبة.
هذا وقد قسمت هذا الكتاب إلى مباحث:
المبحث الأول: معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله وبينت فضل لا إله إلا الله، وأنها أفضل الذكر وتحدثت عن شروطها، كالعلم، واليقين والقبول والانقياد والصدق، والإخلاص والمحبة وارتباطها بالولاء والبراء وآثار الإقرار بهذه الكلمة في حياتنا.
وفي المبحث الثاني والثالث: تكلمت عن إثبات وجود الخالق، وتوحيد الربوبية وأشرت لدليل الخلق، ودليل الفطرة والعهد، ودليل الآفاق ودليل الأنفس، ودليل الهداية، ودليل انتظام الكون وعدم فساده ودليل التقدير ودليل التسوية، التي جاءت في القرآن الكريم.
ووضحت في المبحث والرابع والخامس: توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الالوهية وتكلمت عن علاقة تحكيم الشريعة بالتوحيد، والآثار الحسنة للحكم بما أنزل الله، كالإستخلاف والتمكين والأمن والاستقرار والنصر والفتح والعز والشرف، وبركة العيش ورغده والهداية والتثبيت والفلاح والفوز والمغفرة وتكفير السيئات، ومرافقة النبيين والصِّدِّقين، كما وقفت مع الآثار السيئة للحكم بغير ما أنزل الله، كقسوة القلب والضلال عن الحق، والوقوع في النفاق والحرمان من التوبة، والصدّ عن سبيل الله، وغياب الأمن وانتشار الفوضى وانتشار العداوة والبغضاء، والحرمان من النصر والتمكين، وهول العقاب الذي ينتظر المبدلين لشرعه، والإهانة عند قبض الأرواح والأكل من النار وغضب الجبار والعذاب المهين، وتكلمت عن جهود النبي صلى الله عليه وسلم في حماية توحيد الألوهية، كالنهي عن الغلو والإطراء، لشخصه الكريم، وكيفية التعامل مع الرقي والتمائم ونهيه عن الكهانة... الخ
أما في المبحث السادس: كان الحديث عن الإيمان، واخترت كلمة الإيمان بدلاً من العقيدة واستخدمتها في كتابي تماشياً مع العرض القرآني الذي عرض مقررات الإيمان، وخصائصه ضمن المصطلح اللطيف والكلمة الحبيبة ((الإيمان)) ولا شك أن العودة إلى تعبير القرآن والرسول عليه الصلاة والسلام أنفع وأولى مع جواز المصطلحات الأخرى، فكلمة الإيمان أرقى معنى وأشف ظلاً وأحل على المقصود من الكلمات الأخرى، فهي تشيع في الأجواء عندما تكتب أو تنطق معاني الأمن والثقة وتلقي ظلال الطمأنينة واليقين وتوحي بمعاني الإلزام والتصديق والخضوع وتطلق إيحاءات الثبات والدوام والمتانة والحيوية وكلمة العقيدة لا تتضمن كل هذا كما أنني بينت الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان والأسس التي يقوم عليها الإيمان بالله عز وجل وشرحت بعض الآيات القرآنية التي تحدثت عن الإيمان، كزينة الإيمان، ونور الإيمان، وروح الإيمان، ولخصت في هذا الكتاب أهم أسباب قوة الإيمان مثل:
1 ـ معرفة أسماء الله الحسنى.
2 ـ تدبر القرآن على وجه العموم.
3 ـ معرفة النبي صلى الله عليه وسلم.
4 ـ التفكير في الكون والنظر في الأنفس.
5 ـ الإكثار من ذكر الله في كل وقت.
6 ـ معرفة محاسن الدين.
7 ـ الاجتهاد في التحقق من مقام الإحسان.
8 ـ الدعوة إلى الله.
9 ـ توطين النفس على مقاومة ما ينافي الإيمان.
10 ـ معرفة حقيقة الدنيا واعتبارها ممر للآخرة.
وعرضت بعض صفات المؤمنين التي جاءت في القرآن الكريم، وشرحتها وبينت أهميتها وركزت على أهم فوائد الإيمان وثمراته، كالاغتباط بولاية الله الخاصة ودفاع الله عن المؤمنين والفوز برضا الله، وحصول البشارة بكرامة الله، حصول الفلاح والهدى، الانتفاع بالمواعظ والتذكير، والشكر والصبر، تأثيره على الأعمال والأقوال، هداية الله إلى الصراط المستقيم، محبة الله والمؤمنين من خلقه، رفع الله لمكانتهم.
وفي المبحث السابع والأخير: كان الحديث عن الشرك والكفر والنفاق والردة والفسق والمعاصي.
أيها القاري الكريم أضع بين يديك هذا الكتاب راجياً من الله أن يحي قلبك وتزداد هداية مع كل معرفة جديدة عن ربك فالهدف من كتابته هو زيادة إيمانك برب العالمين بعيدا عن العوائق التي وضعت في طريق الإيمان الذي بينه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وسار عليه الصحابة الكرام سهلا ميسرا بدون عناء ولا شقاء فأمنوا بربهم فهدى الله قلوبهم قال الله سبحانه وتعالى " وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ( التغابن ، آية : 11)، هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الأحد الثالثة إلا ربع ظهراً بتاريخ 8/5/1430هـ/ 3/3/2009م بالدوحة، والفضل لله من قبل ومن بعد وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل عملي لوجهه خالصاً ولعباده نافعا، ويشرح صدور العباد للانتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده وأن يثيب أخواني الذين أعانوني من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من كل مسلم يصله هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفنو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه " رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" (النمل ، آية : 19).
وقال تعالى: " مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (فاطر ، آية : 2).
وقال تعالى: " سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الصافات ، آية : 180 ـ 183).
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلآ أنت استغفرك وأتوب إليك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الاخوة الكرام: يسرني أن تصل ملاحظاتكم وانطباعاتكم حو هذا الكتاب وغيره من كتبي من خلال دور النشر، وأطلب من أخواني الدعاء في ظهر الغيب بالإخلاص لله والصواب لخدمة دينه العظيم.
Mail: info@alsallaby.com
Website : www.alsallaby.com
الفصل الأول
كلمة الشهادة
لا إله إلا الله محمد رسول الله:
المبحث الأول: معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله فضلها وشروطها:
أول كلمة يدخل بها الإنسان بوابة الإسلام، ويصل إلى مدارج التوحيد، ويرتقي في مراقي العبودية، هي كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" التي بموجبها يعترف العبد لله عز وجل وحده بالربوبية والألوهية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة. وأن يشهد العبد أن الله هو المستحق للعبادة، وأن تنصرف قواه ـ قوى عقله وقلبه وبدنه وجوارحه ـ في التسبيح والتهليل والتمجيد، والعبودية لهذا الإله العظيم، الذي أنت أيها الإنسان بعض فضله وبعض خلقه، فكل ذرَّات كيانك الداخلية تعترف به، وتمجَّده وتسبِّحه، شئت أم أبيت، غفلت أم انتبهت، حييت أم مِتَّ، آمنت أو كفرت، فيبقى اختيار الإنسان أن يعبد ربه سبحانه وتعالى طوعاً بما أمره الله تعالى وبما جاء على ألسنة رسله المكرمين عليهم الصلاة والسلام . وأن يشهد بأن محمد صلى الله عليه وسلم الخاتم للرسل هو عبد الله ورسوله أرسله ربنا إلى الخلق أجمعين من الإنس والجن وذلك إقرارا باللسان وإيمانا بالقلب بأنه رحمة مهداة للعالمين.
أولا: معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله:
إن معنى كلمة: لا إله إلا الله أنه لا معبود بحق إلا الله، فهو وحده سبحانه المستحق بأن تصرف له جميع العبادات وتكون خالصة له دون سواه، قال تعالى: "وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ" (البقرة ، آية : 163).
وقال تعالى : "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الزخرف ، آية : 26 ، 28).
وقال تعالى : "اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" (آل عمران ، آية : 2).
ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: الإقرار باللسان والإيمان بالقلب بأن محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي رسول الله ـ عز وجل ـ إلى جميع الخلق من الجن والإنس، قال تعالى: " قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُو يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (الأعراف ، آية 158). وقال تعالى: "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا" (الفرقان ، آية : 1).
فكلمة لا إله إلا الله تشمل جزأيين، النفي والإثبات:
1- أما النفي (لا إله) نافية جميع ما يعبد من دون الله تعالى فلا يستحق أن يعبد أحد سواه، والنكرة في سياق النفي تعم وتفيد العموم، فهي تشمل كل ما يمكن أن يتوجه إليه بالعبادة وكل من تصرف إليه غير الله تعالى.
2 ـ وأما الإثبات (إلا الله) مثبتاً العبادة لله تعالى فهو الإله الحق المستحق للعبادة فإن خبر (لا) المحذوف (بحق) هو الذي جاءت به نصوص الكتاب، فمعنى أنه لا إله بحق إلا الله، أي لا معبود بحق إلا الله، فكما تفرد سبحانه وتعالى بالخلق والرزق والإحياء، والإماتة والإيجاد، والإعدام والنفع والضر، وغير ذلك من معاني ربوبيته ولم يشاركه أحد في خلق المخلوقات ولا في التصرف في شئ منها، فكذلك تفرد سبحانه بالألوهية حق لا شريك له، قال تعالى: "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ" (لقمان، آية : 30).
ولفظ الجلالة في كلمة الشهادة (الله) عز وجل فهو اسم من أسمائه جل وتعالى، بل هو اسمه الأعظم عند قوم، وهذا أكثر الأسماء تردداً في القرآن والسنة. (الله) هو أكثر الأسماء إشتهاراً وترديداً على ألسنة المخلوقين كلهم بمختلف لغاتهم وألسنتهم.
((الله)) هو الإسم الدال عل الذات العظيمة الجامعة لصفات الإلهية والربوبية فهو إسم له وحده لا يتعلق به أحد سواه، ولا يُطلق على غيره ولا يدّعيه أحد من خلقه.
((الله)) اسم للرب المعبود المحمود الذي يمجَّده الخلق ويسبحونه ويحمدونه، وتسبح له السماوات السبع والأرضون السبع ومن فيهم والليل والنهار والإنس والجن والبر والبحر "وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" (الإسراء ، آية : 44".
((الله)) هو الرب الذي تألهُههُ القلوب وتحن إليه النفوس وتتطلع إليه الأشواق، وتحب وتأنس بذكره وقربه وتشتاق إليه وتفتقر إليه المخلوقات كلها في كل لحظة وومضة، وخطرة وفكرة في أمورها الخاصة والعامة، والكبيرة والصغيرة، والحاضرة والمستقبلة، فهو مبديها ومعيدها، ومُنْشِئها وباريها وهي تدين له سبحانه وتُقِرُّ، ةتفتقر إليه في كل شؤونها وأمورها ما من مخلوق إلا ويشعر بأن الله تعالى طوّقه مِنَناً ونِعماً وأفاض عليه من آلائه وكرمه وإفضاله وإنعامه بالشئ الكثير، فجدير بأن يتوجه قلب الإنسان إلى الله تبارك وتعالى بالحب والتعظيم والحنين.
((الله)): أنه العظيم في ذاته وصفاته وأسمائه وجلاله ومجده، لا تحيط به العقول ولا تدركه الأفهام ولا تصل إلى عظمته الظنون، فالعقول تحار في عظمته وإن كانت تستطيع بما مُنحت من الطّوق والقدرة على أن تدرك جانباً من هذه العظمة، يمنحها محبة الله والخوف منه والرجاء فيه والتعبد له بكل ما تستطيع .
قال الشاعر:
لله في الآفاق آيات
لعل أقلَّها هو ما إليه هداكا
ولعلَّ ما في النفس من آياته
عجب عُجاب لو ترى عيناكا
والكون مشحون بأسرار
إذا حاولت تفسيراً لها أعياكا
((الله)) هو الإله المعبود الذي يُخلص له المؤمنون قلوبهم وعبادتهم، وصلاتهم وحَجَّهم وأنساكهم وحياتهم وآخرتهم "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" (الأنعام ، آية : 162 ، 163).
وروح لا إله إلا الله وسرها: إفراد الرب جل ثناؤه وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه وتعالى جده ولا إله غيره بالمحبة والإجلال والتعظيم والخوف والرجاء وتوابع ذلك من التوكل والإنابة والرغبة والرهبة، فلا يحب سواه، بل كان ما كان يحب غيره فإنما هو تبعاً لمحبته وكونه وسيلة إلى زيادة محبته ولا يُخاف سواه، ولا يُرجي سواه، ولا يتوكل إلا عليه ولا يُرغب إلا إليه، ولا يُرهب إلا منه، ولا يُحلف إلا باسمه، ولا يُنذر إلا له، ولا يُتاب إلا إليه، ولا يُطاع إلا بأمره، ولا يُحتسب إلا له، ولا يُستعان في الشدائد إلا به، ولا يُلتجأ إلا إليه، ولا يُسجد إلا له، ولا "يُذبح إلا له وباسمه، يجتمع ذلك في حرف واحد هو أن لا يعبد بجميع أنواع العبادات إلا هو فهذا هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، ولهذا حرم الله على النار من شهد أن لا إله إلا الله حقيقة الشهادة، ومحال أن يدخل النار من تحقق بحقيقة هذه الشهادة وقام بها كما قال تعالى "وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ" (المعارج ، آية : 13). فيكون قائماً بشاهدته في باطنه وظاهره وفي قلبه وقالبه .
ومقتضى هذه الشهادة أن تصدِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر وأن تمتثل أمره فيما أمر، وأن تتجنب ما عنه نهى وزجر، وأن لا تعبد الله إلا بما شرع وأن لا تعتقد أن لرسول الله حقاً في الربوبية وتصريف الكون، أو حقاً في العبادة، بل هو صلى الله عليه وسلم عبدٌ لا يعبد ورسول لا يكذب، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً من النفع أو الضر إلا ما شاء الله .
لقد عرفت لا إله إلا الله لدى المسلمين بكلمة "التوحيد" وكلمة "الإخلاص" وكلمة "التقوى"، وكانت لا إله إلا الله، إعلان ثورة على جبابرة الأرض وطواغيت الجاهلية، ثورة على كل الأصنام والآلهة، المزعومة، من دون الله، سواء كانت شجراً أم حجراً أم بشراً، وكان لا إله إلا الله نداءً عالمياً لتحرير الإنسان من عبودية الإنسان والطبيعة وكل من خلق، وكانت لا إله إلا الله عنوان منهج الله الذي لا تعنو الوجوه إلا له، ولا تنقاد القلوب إلا لحكمه، ولا تخضع إلا لسلطانه .
ثانياً : فضل كلمة لا إله إلا الله: لقد ورد في كتاب الله وسنة نبيه من الفضائل الجمة لهذه الكلمة والخصال العديدة والأوصاف الحميدة، ما يصعب استقصاؤه في هذا الموضع، فهي، كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وخُلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله تعالى رسله، وأنزل كتبه وشرع شرائعه ولأجلها نصبت الموازين ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار والأبرار والفجار، فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب، وهي الحق الذي خلقت له الخليقة، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نصبت القبلة، وعليها أسست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وهي حق الله على جميع العباد، فهي كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام، وعنها يُسأل الأولون والآخرون فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يُسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟
فجواب الأولى: بتحقيق لا إله إلا الله معرفة وإقراراً وعملاً.
وجواب الثاني: بتحقيق أن محمداً رسول الله معرفة وإقراراً وانقياداً وطاعة .
ومما ورد في فضل هذه الكلمة في القرآن الكريم أنها وصفت بالكلمة الطيبة والقول الثابت كما قال تعالى: " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" (إبراهيم، الآيات،:24 ـ 25).
وأنها العروة الوثقى، كما قال تعالى: "فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا" (البقرة،آية:256).
ومن فضائلها أن الرسل جميعهم أُرسلوا بها منذرين ومبشرين كما قال تعالى: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ " (الأنبياء ، آية : 25).
إلى غير ذلك من الفضائل التي ذكرت في القرآن الكريم وأما ما ورد في فضلها في السنة المشرفة فكثير جداً نذكر منه بعضها:
ـ فمن ذلك أنها أعلى شعب الإيمان فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق .
ـ ومن فضائلها أن الجهاد أقيم من أجل إعلائها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذ فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله .
ـ ومن فضائلها أنها ترجح بصحائف الذنوب كما في حديث البطاقة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئاً أظلمك كتبي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: ألك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول أحضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء .
ثالثاً: أفضل الذكر لا إله إلا الله:
إن ذكر الله من أجل العبادات المقربة إلى الله تعالى وأجلّها وأعظمها أجراً، مع سهولته ويسره على من يسرّه الله عليه هذا وإن أفضل أنواع الذكر بعد القرآن العظيم هو قول المرء: لا إله إلا الله وهي كلمة التوحيد، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:أفضل الذكر لا إله إلا الله ،وهذه الكلمة الجليلة واجب على كل مسلم أن يتعلمها ويعلم مضمونها ومعناها وشروطها وأركانها وكل ما يتعلق بها لأنها الكلمة التي يعير بها المرء مسلماً، فهي الفيصل بين الكفر والإسلام، ولأن الله جل جلاله أمر أفضل خلقه وخاتم رسله صلى الله عليه وسلم أن يعلم كل ما يتعلق بها ويعتقده في قوله: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" (محمد ، آية : 19).
وقد ذم الله سبحانه من استكبر عنها وأعرض عنها وترك العمل بها في قوله :" إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ" (الصافات ، آية : 35 ـ 36).
ووصف الله سبحانه نفسه بما تضمنته هذه الكلمة في غير موضع من كتابه فقال: "اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" (البقرة ، آية : 255) وقال سبحانه: " هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " (غافر ، آية : 65) وحققها إبراهيم عليه السلام كما حكى الله عنه بقوله: " إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ" (الزخرف، آية:26ـ 28).
رابعاً: أشعة كلمة لاإله إلا الله، تبدد ظلمات القلوب:
اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها وتفاوت أهلها في ذلك النور، قوة وضعفاً، لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس، من نور هذه الكلمة كالشمس، ومنهم، من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسرج الضعيف ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم، وبين أيديهم، على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علماً وعملاً ومعرفة وحالاً وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى انه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنباً، إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئاً، فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا على غرّة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سُرق منه استنقذه من سارقه أو حصّل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبداً مع لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره .
خامساً: التوافق بين لا إله إلا الله "وإياك نعبد":
إن معنى لا إله إلا الله تضمنه قوله :"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" (الفاتحة، الآية:5) وهذه الآية متضمنة لأجل الغايات، ففيها يسر الخلق والأمر، والدنيا والآخرة، وهي متضمنة لأجل الغايات وأفضل الوسائل فأجل الغايات عبوديته، وأفضل الوسائل إعانته، فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجلّ الوسائل.
وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد، وهما توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتضمنت التعبد باسم الرب واسم الله، فهو يعبد بألوهيته، ويستعان بربوبيته، ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته، فكان أول السورة ذكر أسمه: الله والرب، والرحمن تطابقاً لأجل الطالب من عبادته وإعانته وهدايته وهو المنفرد بإعطاء ذلك كله، لا يعين على عبادته سواه ولا يهدي سواه .
سادساً: شروط لا إله إلا الله: لمّا كان معنى لا إله إلا الله هو: أنه لا معبود بحق إلا الله، ولمّا كان كثير من الناس لا يدرك معنى وأهمية لا إله إلا الله: كان لا بدَّ لنا أن نتحدث عن شروط هذه الكلمة.
ورحم الله وهب بن منبه حين سئل: أليست لا إله إلا الله مفتاح الجنَّة؟ قال:بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك ، وهذه الأسنان هي شروط هذه الكلمة العظيمة ، والتي عددها سبعة عند العلماء، وليس المراد من هذا عدُّ ألفاظها، وحفظها، فكم من عامّيّ إجتمعت فيه والتزمها، ولو قيل له أعددها لم يحسن ذلك وكم حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم، وتراه يقع كثيراً فيما يناقضها والتوفيق بيد الله ، وإليك هذه الشروط مع أدلتها من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مع الإختصار:
1ـ العلم بمعناها، نفياً وإثباتاً، علماً ينافي الجهل بها قال الله تعالى: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" (محمد ، آية : 19)، وقال تعالى: "شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (آل عمران ، آية : 18).
وفي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة .
2ـ اليقين المنافي للشك، وذلك بأن يكون قائلها مستيقناً بمدلول هذه الكلمة يقيناً جازماً قال تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" ( الحجرات ، آية : 15).
وقال صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله، لا يلق الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة ، وقال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه: من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة .
3ـ القبول لما اقتضته هذه الكلمة بالقلب واللسان وقد قص الله علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء من قبلها وإنتقامه ممّن ردّها وأباها قال تعالى: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" (الروم ، آية : 47) وقال تعالى: " ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ" (يونس ، آية :102)، وقال تعالى عن الذين كذبوا بهذه الكلمة ورفضوها ولم يقبلوها: "فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" الزخرف، آية :25).
وقال صلى الله عليه وسلم: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا، وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعمل، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به .
4ـ الانقياد لما دلت عليه المنافي لترك ذلك: قال الله سبحانه وتعالى: "وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ" (الزمر ، آية : 54)، وقال تعالى: " وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ" ( النساء ، آية : 125).
5ـ الصدق المنافي للكذب، وذلك بأن يقولها صدقاً من قلبه يواطئ قلبه لسانه قال تعالى: "الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" (العنكبوت ، آية : 1 ـ 3).
وقال صلى الله عليه وسلم: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرّمه الله على النار .
6ـ الإخلاص وهو تصفية العمل لصالح النية عن جميع شوائب الشرك، قال تعالى: "أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ" (الزمر ، آية: 3)، وقال تعالى ((فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ" ( الزمر ، آية : 2)، وقال تعالى: " وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ" (البينة ، آية : 5).
وقال صلى الله عليه وسلم: أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه ، وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله حرّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله .
7ـ المحبة لهذه الكلمة ولما اقتضته ودلت عليه، ولأهلها العاملين بها الملتزمين بشروطها وبغض ما ناقض ذلك قال تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ" (البقرة ، آية : 165).
وقال صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبُه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار .
وقال صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين .
ومحبة الله سبحانه وتعالى لا تتم إلا بمحبة ما يحبه وكره ما يكرهه وطريق معرفة ذلك هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته، فمحبة الله تستلزم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه وطاعته فهذه الشروط من حققها وعمل بها وابتعد عما يناقضها أوجب له مغفرة الذنوب بإذن الله تعالى .
سابعاً: إرتباط لا إله إلا الله بالولاء والبراء:
ولما كان أصل الموالاة: الحب، وأصل المعاداة: البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنفرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك ، فإن الولاء والبراء من لوازم لا إله إلا الله قال الله تعالى: "لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ" (آل عمران ، آية : 28)، وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (المائدة ، آية 51)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله .
ولقد ضرب نبي الله إبراهيم عليه السلام نموذج السوة الحسنة في ولائه لرب العالمين حيث كان عليه السلام أسوة حسنة وقدوة طيبة في ولائه لربه ودينه وعباد الله المؤمنين وبرائه ومعاداته لأعداء الله ومنهم أبوه،لقد كانت سيرة نبي الله ابراهيم عليه السلام مع قومه، كأي نبي رسول، حيث دعاهم بالتي هي أحسن إلى عبادة الله وتوحيده، وإفراده بالعباد
جل جلاله
قال تعالى: " وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ( التغابن ، آية : 11)
د. علي محمد محمد الصلابي
بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء
إلى كل إنسان في الوجود يبحث عن الطريق لمعرفة الله، والإيمان به وتحقيق عبوديته الشاملة على المنهج الصحيح أهدي هذا الكتاب سائلاً المولى عز وجلّ بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يكون خالصاً لوجه الكريم.
قال تعالى:" فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" (الكهف ، آية : 110).
د. علي محمد محمد الصلابي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" (آل عمران ، آية : 102).
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" (النساء ، آية : 1).
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" (الأحزاب ، آية : 70، 71).
يا رب لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى.
أما بعد:
هذا الكتاب يتحدث عن الخالق العظيم والرازق الكريم، الفعّال لما يريد، الكريم المنان، الواسع العليم، الذي رأيت من خلال مسيرتي في عالم التاريخ عظمته في الحياة، وفي قيام الدول وزوالها، وانتشار الحضارات وإندثارها، وعز الحكومات وإذلالها وقصص الناس ، وفي مخلوقاته العجيبة الغريبة وفي هذا الكون الفسيح وحركة التاريخ.
هذا الكتاب إنما كان نتاج هذه المسيرة، بل إحدى ثمارها حيث وجدت أن الذين أمنوا بالله العظيم واتبعوا رسوله الكريم هدى الله قلوبهم بل زادها إيمانا ، لقد عرفوا ربهم وعلموا أن الله هو التواب الرحيم ذو الفضل العظيم، العزيز الحكيم الذي ابتلى إبراهيم بكلمات، وسمع نداء يونس في الظلمات، واستجاب لزكريا فوهبه على الكبر يحيى هادياً مهدياً، وحنّاناً من لدنه وكان تقيا.
الله الذي أزال الكرب عن أيوب وألان الحديد لداود وسخر الريح لسليمان، وفلق البحر لموسى، ورفع إليه عيسى، ونجّا هوداً وأهلك قومه، ونجّا صالحاً من الظالمين فأصبح قومه في دارهم جاثمين، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وفداء إسماعيل بذبح عظيم، وجعل عيسى وأمه آية للعالمين.
الله الذي أغرق فرعون وقومه ونجّاه ببدنه ليكون لمن خلقه آية، وخسف بقارون وداره الأرض، ونجّا يوسف من غيابت الجب وجعله على خزائن الأرض، ونصر نوحاً على القوم الكافرين ونجّاه وأهله من الكرب العظيم.
الله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، وأسعد وأشقى، وأوجد وأبلى، ورفع وخفض، وأعز وأذل، وأعطى ومنع.
هدى نوحاً وأضل ابنه، واختار ابراهيم وأبعد أباه، وأنقذ لوطاً وأهلك امرأته، ولعن فرعون وهدى زوجته، واصطفى محمد ومقت عمه وجعل من أنصار دعوته أبناء ألد خصومه، كخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، فسبحانه عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته .
الله جلّ وعلا الذي جمع في هذا الوجود بين الكمال والجمال وعنصر الجمال في هذا الكون مقصوداً قصداً، جمال مقصود وكمال بلا حدود، فرؤية الجمال على حقيقته لا تكون إلا حينما ينظر القلب بنور الله، فتتكشف له الأشياء عن جوهرها الجميلة وروائعها البديعة، ويتذكر الله كلما وقعت عينه أو حسه على شيء بديع، أو منظر حسن، فيحسن بالصلة ويشعر بالترابط بين المبدع وما أبدع والجميل وما جمّل والمحسن وما أحسن، ويرى من وراء هذا الجمال جمال الله وجلاله وكماله والقرآن الكريم يوقظ القلوب لتتبع مواضع الحسن وآيات الجمال في هذا الكون البديع " فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" (المؤمنون ، آية : 14)، "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ" (السجدة ، آية : 7)، وقال تعالى:" أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ" (ق ، آية : 6).
وتأمل كلمة" أَفَلَمْ يَنظُرُوا" إنه استفهام استنكاري لأولئك الذين لهم أعين لا يبصرون بها، وقلوب لا يفقهون بها، ولا يرون ذلك الجمال الساحر، والإبداع الأخاذ والحسن الجذّاب الذي يدل على رب العباد، ولذلك يكثر في القرآن الكريم الأمر بالنظر لأخذ العبرة، وللإحساس بالجمال:
قال تعالى:" أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ" (الأعراف ، آية : 185).
وقال تعالى:" فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (الروم ، آية : 50).
وقال تعالى:" قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (العنكبوت ، آية : 20).
قال تعالى:" فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا* فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا* وَعِنَبًا وَقَضْبًا* وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا* وَحَدَائِقَ غُلْبًا* وَفَاكِهَةً وَأَبًّا* مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ" (عبس ، آية : 24ـ 32).
وقال تعالى:" قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" (يونس ، آية : 101).
فأين الأعين الناظرة، والقلوب المبصرة، والأذهان المتوقدة، والفطرة السليمة، والمشاعر الحية، والأحاسيس المرهفة؟ يا الله ما أروع هذا الكون وما أجمل هذا الوجود، إن المتأمل فيه يبهر بجماله، وروعة نظامه وعظمة إحكامه كل شيء فيه جميل ليله ونهاره، صبحه ومساؤه، أرضه وسماؤه، بدره وشمسه، حرّه وبرده، غيمه وصحوه، أخضره وأغبره، جباله وتلاله ، سهوله ووديانه، بره وبحره، كل شيء جميل، وكل شيء بديع وكل شيء متقن، وكل شيء متناسق وكل شيء منتظم، وكل شيء بقدر، وكل شيء بإحكام، من الذرة الصغيرة إلى الجرم الكبير، ومن الخلية الساذجة إلى أعقد الأجسام.
أنظر إلى الإنسان وروعة خلقه، وتباين أجناسه وتعدد لغاته وإختلاف نغماته، فهو جلّ وعلا قد أحسن كل شيء خلقه ومن أحسن مخلوقاته وأجملها الإنسان" وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ" (التغابن ، آية : 3)، " يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ" (الإنفطار ، آية : 6ـ ، قال تعالى:" لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" (التين ، آية : 4).
أنظر إلى السماء وهيبتها والنجوم وفتنتها، والشمس وحسنها، والكواكب وروعتها، والبدر وإشراقه، والفضاء ورحابته، تأمل في السماء في ليلة حالكة وقد انتشرت فيها الكواكب وبثت فيها النجوم.
أنظر إلى الأرض كيف دحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها، هذه البحار، هذه الأنهار، هذا الليل، هذا الصبح، هذا الضياء، هذه الظلال، هذه السحب، هذا التناغم الساري في الوجود كله، هذا التناسق هذه الزهرة، هذه الوردة هذه الثمرة اليانعة، هذا اللبن السائغ، هذا الشهد المذاب، هذه النخلة هذه النحلة، هذه النملة هذه الدويبة الصغيرة المجهزة بالأرجل أو الشعيرات أو الملامسة والمرونة لتشق طريقها وتتعامل مع واقعها، هذه السمكة، هذا الطائر المغرد، والبلبل الشادي هذه الزاحفة، هذا الحيوان جمال لا ينفذ، وحسن لا ينتهي وقرة عين لا تنقطع ، " فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ* وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ* يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ " (الروم ، آية : 17ـ 19).
الله سبحانه إله واحد ليس له شريك، وليس له مثيل في ذاته أو صفاته أو أفعاله كل ما في الكون من إبداع ونظام وانسجام يدل على أن مبدعه ومدبره واحد ولو كان وراء هذا الكون أكثر من مدبر وأكثر من منظم لأختل نظامه، واضطربت سننه " لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ" (الأنبياء ، آية : 22).
وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله وأن الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عبّاد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن، من محبة الله والخضوع له والذل له، وكمال الإنقياد لطاعته وإخلاص العبادة له وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال والمنع والعطاء والحب والبغض وهو واحد سبحانه في ألوهيته فلا يستحق العبادة إلا هو ولا يجوز التوجه بخوف أو رجاء إلا إليه لا خشية إلا منه، ولا ذل إلا إليه، ولا طمع إلا في رحمته، ولا إعتماد إلا عليه ولا إنقياد إلا لحكمه .
الله كل الخلق مفتقرون إليه، قال تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ" (فاطر ، آية : 15).
قد يعطي الإنسان أموالاً وقد يمنح عقاراً، وقد يرزق عيالاً وقد يوهب جاهاً، وقد ينال منصباً عظيماً أو مركزاً كريماً أو زعامة عريضة، أو رياسة مكينة، قد يحف به الخدم ويحيط به الجند، وتحرسه الجيوش، ويرضخ له الناس وتذل له الرؤوس، وتدين له الشعوب ولكنه مع ذلك فقير إلى الله محتاج إلى مولاه .
الله، أسعد عباده بكتابه، وأبهج قلوبهم بكلامهم وأنار بصائرهم بقراءته، أكثرهم قراءة له من أشدّهم تعظيماً له، وأقربهم منزلة منه، أقربهم من كلامه، أقرؤهم لوحيه كلام معجز، وقرآن مبهج، وحبل متين، ونور مبين ينطق بالعظمة ويهتف بالإبداع، ويصدح بالألوهية يشهد للربوبية .
قال تعالى:" اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" (الزمر ، آية : 23).
وجود الله جلّ وعلا أمر ثابت في الأنفس، متمكن في الفطر، مزروع في الأذهان، مغروس في الأفئدة لا يحتاج إلى دليل ولا يتطلب إثبات، ولا يفتقر إلى تأكيد.
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
ولكن بعض ذوي الفطر المنكوسة والأنفس المريضة، والعقليات المتعنتة قد يجادلون في ذلك مع أنه مغروس في حقيقة ضمائرهم " وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ" (النمل ، آية : 14).
وجاء القرآن الكريم مزدهراً بآيات تنطق بالعظمة وتشهد بالربوبية، تسُر أنفس الواثقين، وتدحض مزاعم المارقين " أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ" (الطور ، آية : 35).
وقد تعرض أنبياء الله وأمناء الوحي وحملة الدعوة ومصابيح الدجى وأنصار التوحيد، تعرضوا لعدد من المتعنتين على مرّ العصور مع اختلاف في طبقاتهم وتباين في تفنناتهم إلا أن بعضهم وصل به الأمر أن ادعى أنه رب العالمين فأيد الله أولياءه بحجج قاهرة ودلائل باهرة وأدلة قاصمة، وصواعق مرسلة تدمر أباطيلهم وتنسف إفتراءاتهم وتزلزل كياناتهم وتظهر سخف عقولهم وقلة فهمهم وانحطاط أمانيهم.
فهذا إبراهيم عليه السلام يحاور النمرود الذي طغى وتجبر وعتا وتكبر وادعى الربوبية من دون المولى عز وجل، قال تعالى:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (البقرة ، آية : 258).
فحينما أدلى إبراهيم بالدليل الأول على وجود الله تعالى وربوبيته فقال " رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ" قال النمرود: وأنا أحيي وأميت أي أنه إذا أتى بالرجلين قد تحتم قتلهما فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر فكأنه قد أحياه وأمات الآخر، وهذه حجة واهية ورد سخيف، ولكن إبراهيم عليه السلام، تدرج معه في المحاجة فأتاه بالضربة القاضية والحجة الدامغة فقال:" فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ" : أي هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيّرها وقاهرها وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء، فإن كنت كما زعمت أنك تحيي وتميت فأت بهذه الشمس من المغرب، فإن الذي يحيي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا يمانع ولا يغالب بل قد قهر كل شيء، ودان له كل شيء، فإن كنت كما تزعم فأفعل هذا فإن لم تفعله فلست كما زعمت وأنت تعلم وكل أحد انك لا تقدر على هذا ولم يبق للنمرود كلام يجيب فيه الخليل عليه الصلاة والسلام ، ولهذا قال تعالى:" فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ".
وقال الشاعر:
فيا عجباً كيف يعصي الإله
أم كيف يجحده الجاحد
والله في كل تحريكة
وفي كل تسكينة شاهد
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وما أجمل هذه الأبيات الرائعة التي قالها الشاعر إبراهيم بريول ـ رحمه الله:
إني أويت لكل مأوى في الحياة
فما رأيت أعز من مأواكا
وتلمست نفسي السبيل إلى النجاة
فلم تجد منجي سوى منجاكا
وبحثت عن سِرّ السعادة جاهداً
فوجدت هذا السر في تقواكا
فليرضى عني الناس أو فليسخطوا
أنا لم أعد أسعى لغير رضاكا
أدعوك يا ربي لتغفر حوبتي
وتعينني وتمدني بهداكا
فأقبل دعائي واستجب لرجائي
ما خاب يوماً من دعا ورجاكا
إلى أن قال:
يا أيها الإنسان مهلاً ما الذي
بالله جلّ جلاله أغراكا
فأسجد لمولاك القدير فإنما
لابد يوماً تنتهي دنياك
وتكون في يوم القيامة ماثلاً
تجزى بما قد قدّمته يداكا
إن حقائق الإسلام ثابتة لا تتغير منذ أنزلت على رسول الله صلى اله عليه وسلم إلى قيام الساعة، المرجع فيها هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولكن علماء الأمة في كل جيل ـ وطلاب العلم فيها ـ يتناولونها بالشرح والتفسير من خلال الواقع الذي يعيشه كل جيل، وما جدّ فيه من نوازل وما حدث فيه من انحراف في الفهم أو السلوك، وإن جيلنا الذي نعيش فيه لهو من أحوج الأجيال إلى التعرف على حقائق دينه وخصوصاً اركان الإيمان الستة وهذا الكتاب الذي بين يدي القارئ يتناول الركن الأول ((الإيمان بالله عز وجل)) وستلحقه بإذن الله تعالى دراسات أخرى في أركان الإيمان الستة، والأخلاق والتربية الروحية، والسنن الإلهية، ومقاصد الشريعة والسياسة الشرعية، وعلم المصالح والمفاسد وغيرها من الدراسات المنهجية الهادفة إلى المساهمة في نهضة الأمة وانطلاقتها الحضارية الجديدة المرتقبة.
هذا وقد قسمت هذا الكتاب إلى مباحث:
المبحث الأول: معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله وبينت فضل لا إله إلا الله، وأنها أفضل الذكر وتحدثت عن شروطها، كالعلم، واليقين والقبول والانقياد والصدق، والإخلاص والمحبة وارتباطها بالولاء والبراء وآثار الإقرار بهذه الكلمة في حياتنا.
وفي المبحث الثاني والثالث: تكلمت عن إثبات وجود الخالق، وتوحيد الربوبية وأشرت لدليل الخلق، ودليل الفطرة والعهد، ودليل الآفاق ودليل الأنفس، ودليل الهداية، ودليل انتظام الكون وعدم فساده ودليل التقدير ودليل التسوية، التي جاءت في القرآن الكريم.
ووضحت في المبحث والرابع والخامس: توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الالوهية وتكلمت عن علاقة تحكيم الشريعة بالتوحيد، والآثار الحسنة للحكم بما أنزل الله، كالإستخلاف والتمكين والأمن والاستقرار والنصر والفتح والعز والشرف، وبركة العيش ورغده والهداية والتثبيت والفلاح والفوز والمغفرة وتكفير السيئات، ومرافقة النبيين والصِّدِّقين، كما وقفت مع الآثار السيئة للحكم بغير ما أنزل الله، كقسوة القلب والضلال عن الحق، والوقوع في النفاق والحرمان من التوبة، والصدّ عن سبيل الله، وغياب الأمن وانتشار الفوضى وانتشار العداوة والبغضاء، والحرمان من النصر والتمكين، وهول العقاب الذي ينتظر المبدلين لشرعه، والإهانة عند قبض الأرواح والأكل من النار وغضب الجبار والعذاب المهين، وتكلمت عن جهود النبي صلى الله عليه وسلم في حماية توحيد الألوهية، كالنهي عن الغلو والإطراء، لشخصه الكريم، وكيفية التعامل مع الرقي والتمائم ونهيه عن الكهانة... الخ
أما في المبحث السادس: كان الحديث عن الإيمان، واخترت كلمة الإيمان بدلاً من العقيدة واستخدمتها في كتابي تماشياً مع العرض القرآني الذي عرض مقررات الإيمان، وخصائصه ضمن المصطلح اللطيف والكلمة الحبيبة ((الإيمان)) ولا شك أن العودة إلى تعبير القرآن والرسول عليه الصلاة والسلام أنفع وأولى مع جواز المصطلحات الأخرى، فكلمة الإيمان أرقى معنى وأشف ظلاً وأحل على المقصود من الكلمات الأخرى، فهي تشيع في الأجواء عندما تكتب أو تنطق معاني الأمن والثقة وتلقي ظلال الطمأنينة واليقين وتوحي بمعاني الإلزام والتصديق والخضوع وتطلق إيحاءات الثبات والدوام والمتانة والحيوية وكلمة العقيدة لا تتضمن كل هذا كما أنني بينت الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان والأسس التي يقوم عليها الإيمان بالله عز وجل وشرحت بعض الآيات القرآنية التي تحدثت عن الإيمان، كزينة الإيمان، ونور الإيمان، وروح الإيمان، ولخصت في هذا الكتاب أهم أسباب قوة الإيمان مثل:
1 ـ معرفة أسماء الله الحسنى.
2 ـ تدبر القرآن على وجه العموم.
3 ـ معرفة النبي صلى الله عليه وسلم.
4 ـ التفكير في الكون والنظر في الأنفس.
5 ـ الإكثار من ذكر الله في كل وقت.
6 ـ معرفة محاسن الدين.
7 ـ الاجتهاد في التحقق من مقام الإحسان.
8 ـ الدعوة إلى الله.
9 ـ توطين النفس على مقاومة ما ينافي الإيمان.
10 ـ معرفة حقيقة الدنيا واعتبارها ممر للآخرة.
وعرضت بعض صفات المؤمنين التي جاءت في القرآن الكريم، وشرحتها وبينت أهميتها وركزت على أهم فوائد الإيمان وثمراته، كالاغتباط بولاية الله الخاصة ودفاع الله عن المؤمنين والفوز برضا الله، وحصول البشارة بكرامة الله، حصول الفلاح والهدى، الانتفاع بالمواعظ والتذكير، والشكر والصبر، تأثيره على الأعمال والأقوال، هداية الله إلى الصراط المستقيم، محبة الله والمؤمنين من خلقه، رفع الله لمكانتهم.
وفي المبحث السابع والأخير: كان الحديث عن الشرك والكفر والنفاق والردة والفسق والمعاصي.
أيها القاري الكريم أضع بين يديك هذا الكتاب راجياً من الله أن يحي قلبك وتزداد هداية مع كل معرفة جديدة عن ربك فالهدف من كتابته هو زيادة إيمانك برب العالمين بعيدا عن العوائق التي وضعت في طريق الإيمان الذي بينه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وسار عليه الصحابة الكرام سهلا ميسرا بدون عناء ولا شقاء فأمنوا بربهم فهدى الله قلوبهم قال الله سبحانه وتعالى " وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ( التغابن ، آية : 11)، هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الأحد الثالثة إلا ربع ظهراً بتاريخ 8/5/1430هـ/ 3/3/2009م بالدوحة، والفضل لله من قبل ومن بعد وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل عملي لوجهه خالصاً ولعباده نافعا، ويشرح صدور العباد للانتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده وأن يثيب أخواني الذين أعانوني من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من كل مسلم يصله هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفنو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه " رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" (النمل ، آية : 19).
وقال تعالى: " مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (فاطر ، آية : 2).
وقال تعالى: " سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الصافات ، آية : 180 ـ 183).
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلآ أنت استغفرك وأتوب إليك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الاخوة الكرام: يسرني أن تصل ملاحظاتكم وانطباعاتكم حو هذا الكتاب وغيره من كتبي من خلال دور النشر، وأطلب من أخواني الدعاء في ظهر الغيب بالإخلاص لله والصواب لخدمة دينه العظيم.
Mail: info@alsallaby.com
Website : www.alsallaby.com
الفصل الأول
كلمة الشهادة
لا إله إلا الله محمد رسول الله:
المبحث الأول: معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله فضلها وشروطها:
أول كلمة يدخل بها الإنسان بوابة الإسلام، ويصل إلى مدارج التوحيد، ويرتقي في مراقي العبودية، هي كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" التي بموجبها يعترف العبد لله عز وجل وحده بالربوبية والألوهية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة. وأن يشهد العبد أن الله هو المستحق للعبادة، وأن تنصرف قواه ـ قوى عقله وقلبه وبدنه وجوارحه ـ في التسبيح والتهليل والتمجيد، والعبودية لهذا الإله العظيم، الذي أنت أيها الإنسان بعض فضله وبعض خلقه، فكل ذرَّات كيانك الداخلية تعترف به، وتمجَّده وتسبِّحه، شئت أم أبيت، غفلت أم انتبهت، حييت أم مِتَّ، آمنت أو كفرت، فيبقى اختيار الإنسان أن يعبد ربه سبحانه وتعالى طوعاً بما أمره الله تعالى وبما جاء على ألسنة رسله المكرمين عليهم الصلاة والسلام . وأن يشهد بأن محمد صلى الله عليه وسلم الخاتم للرسل هو عبد الله ورسوله أرسله ربنا إلى الخلق أجمعين من الإنس والجن وذلك إقرارا باللسان وإيمانا بالقلب بأنه رحمة مهداة للعالمين.
أولا: معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله:
إن معنى كلمة: لا إله إلا الله أنه لا معبود بحق إلا الله، فهو وحده سبحانه المستحق بأن تصرف له جميع العبادات وتكون خالصة له دون سواه، قال تعالى: "وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ" (البقرة ، آية : 163).
وقال تعالى : "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الزخرف ، آية : 26 ، 28).
وقال تعالى : "اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" (آل عمران ، آية : 2).
ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: الإقرار باللسان والإيمان بالقلب بأن محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي رسول الله ـ عز وجل ـ إلى جميع الخلق من الجن والإنس، قال تعالى: " قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُو يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (الأعراف ، آية 158). وقال تعالى: "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا" (الفرقان ، آية : 1).
فكلمة لا إله إلا الله تشمل جزأيين، النفي والإثبات:
1- أما النفي (لا إله) نافية جميع ما يعبد من دون الله تعالى فلا يستحق أن يعبد أحد سواه، والنكرة في سياق النفي تعم وتفيد العموم، فهي تشمل كل ما يمكن أن يتوجه إليه بالعبادة وكل من تصرف إليه غير الله تعالى.
2 ـ وأما الإثبات (إلا الله) مثبتاً العبادة لله تعالى فهو الإله الحق المستحق للعبادة فإن خبر (لا) المحذوف (بحق) هو الذي جاءت به نصوص الكتاب، فمعنى أنه لا إله بحق إلا الله، أي لا معبود بحق إلا الله، فكما تفرد سبحانه وتعالى بالخلق والرزق والإحياء، والإماتة والإيجاد، والإعدام والنفع والضر، وغير ذلك من معاني ربوبيته ولم يشاركه أحد في خلق المخلوقات ولا في التصرف في شئ منها، فكذلك تفرد سبحانه بالألوهية حق لا شريك له، قال تعالى: "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ" (لقمان، آية : 30).
ولفظ الجلالة في كلمة الشهادة (الله) عز وجل فهو اسم من أسمائه جل وتعالى، بل هو اسمه الأعظم عند قوم، وهذا أكثر الأسماء تردداً في القرآن والسنة. (الله) هو أكثر الأسماء إشتهاراً وترديداً على ألسنة المخلوقين كلهم بمختلف لغاتهم وألسنتهم.
((الله)) هو الإسم الدال عل الذات العظيمة الجامعة لصفات الإلهية والربوبية فهو إسم له وحده لا يتعلق به أحد سواه، ولا يُطلق على غيره ولا يدّعيه أحد من خلقه.
((الله)) اسم للرب المعبود المحمود الذي يمجَّده الخلق ويسبحونه ويحمدونه، وتسبح له السماوات السبع والأرضون السبع ومن فيهم والليل والنهار والإنس والجن والبر والبحر "وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" (الإسراء ، آية : 44".
((الله)) هو الرب الذي تألهُههُ القلوب وتحن إليه النفوس وتتطلع إليه الأشواق، وتحب وتأنس بذكره وقربه وتشتاق إليه وتفتقر إليه المخلوقات كلها في كل لحظة وومضة، وخطرة وفكرة في أمورها الخاصة والعامة، والكبيرة والصغيرة، والحاضرة والمستقبلة، فهو مبديها ومعيدها، ومُنْشِئها وباريها وهي تدين له سبحانه وتُقِرُّ، ةتفتقر إليه في كل شؤونها وأمورها ما من مخلوق إلا ويشعر بأن الله تعالى طوّقه مِنَناً ونِعماً وأفاض عليه من آلائه وكرمه وإفضاله وإنعامه بالشئ الكثير، فجدير بأن يتوجه قلب الإنسان إلى الله تبارك وتعالى بالحب والتعظيم والحنين.
((الله)): أنه العظيم في ذاته وصفاته وأسمائه وجلاله ومجده، لا تحيط به العقول ولا تدركه الأفهام ولا تصل إلى عظمته الظنون، فالعقول تحار في عظمته وإن كانت تستطيع بما مُنحت من الطّوق والقدرة على أن تدرك جانباً من هذه العظمة، يمنحها محبة الله والخوف منه والرجاء فيه والتعبد له بكل ما تستطيع .
قال الشاعر:
لله في الآفاق آيات
لعل أقلَّها هو ما إليه هداكا
ولعلَّ ما في النفس من آياته
عجب عُجاب لو ترى عيناكا
والكون مشحون بأسرار
إذا حاولت تفسيراً لها أعياكا
((الله)) هو الإله المعبود الذي يُخلص له المؤمنون قلوبهم وعبادتهم، وصلاتهم وحَجَّهم وأنساكهم وحياتهم وآخرتهم "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" (الأنعام ، آية : 162 ، 163).
وروح لا إله إلا الله وسرها: إفراد الرب جل ثناؤه وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه وتعالى جده ولا إله غيره بالمحبة والإجلال والتعظيم والخوف والرجاء وتوابع ذلك من التوكل والإنابة والرغبة والرهبة، فلا يحب سواه، بل كان ما كان يحب غيره فإنما هو تبعاً لمحبته وكونه وسيلة إلى زيادة محبته ولا يُخاف سواه، ولا يُرجي سواه، ولا يتوكل إلا عليه ولا يُرغب إلا إليه، ولا يُرهب إلا منه، ولا يُحلف إلا باسمه، ولا يُنذر إلا له، ولا يُتاب إلا إليه، ولا يُطاع إلا بأمره، ولا يُحتسب إلا له، ولا يُستعان في الشدائد إلا به، ولا يُلتجأ إلا إليه، ولا يُسجد إلا له، ولا "يُذبح إلا له وباسمه، يجتمع ذلك في حرف واحد هو أن لا يعبد بجميع أنواع العبادات إلا هو فهذا هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، ولهذا حرم الله على النار من شهد أن لا إله إلا الله حقيقة الشهادة، ومحال أن يدخل النار من تحقق بحقيقة هذه الشهادة وقام بها كما قال تعالى "وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ" (المعارج ، آية : 13). فيكون قائماً بشاهدته في باطنه وظاهره وفي قلبه وقالبه .
ومقتضى هذه الشهادة أن تصدِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر وأن تمتثل أمره فيما أمر، وأن تتجنب ما عنه نهى وزجر، وأن لا تعبد الله إلا بما شرع وأن لا تعتقد أن لرسول الله حقاً في الربوبية وتصريف الكون، أو حقاً في العبادة، بل هو صلى الله عليه وسلم عبدٌ لا يعبد ورسول لا يكذب، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً من النفع أو الضر إلا ما شاء الله .
لقد عرفت لا إله إلا الله لدى المسلمين بكلمة "التوحيد" وكلمة "الإخلاص" وكلمة "التقوى"، وكانت لا إله إلا الله، إعلان ثورة على جبابرة الأرض وطواغيت الجاهلية، ثورة على كل الأصنام والآلهة، المزعومة، من دون الله، سواء كانت شجراً أم حجراً أم بشراً، وكان لا إله إلا الله نداءً عالمياً لتحرير الإنسان من عبودية الإنسان والطبيعة وكل من خلق، وكانت لا إله إلا الله عنوان منهج الله الذي لا تعنو الوجوه إلا له، ولا تنقاد القلوب إلا لحكمه، ولا تخضع إلا لسلطانه .
ثانياً : فضل كلمة لا إله إلا الله: لقد ورد في كتاب الله وسنة نبيه من الفضائل الجمة لهذه الكلمة والخصال العديدة والأوصاف الحميدة، ما يصعب استقصاؤه في هذا الموضع، فهي، كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وخُلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله تعالى رسله، وأنزل كتبه وشرع شرائعه ولأجلها نصبت الموازين ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار والأبرار والفجار، فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب، وهي الحق الذي خلقت له الخليقة، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نصبت القبلة، وعليها أسست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وهي حق الله على جميع العباد، فهي كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام، وعنها يُسأل الأولون والآخرون فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يُسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟
فجواب الأولى: بتحقيق لا إله إلا الله معرفة وإقراراً وعملاً.
وجواب الثاني: بتحقيق أن محمداً رسول الله معرفة وإقراراً وانقياداً وطاعة .
ومما ورد في فضل هذه الكلمة في القرآن الكريم أنها وصفت بالكلمة الطيبة والقول الثابت كما قال تعالى: " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" (إبراهيم، الآيات،:24 ـ 25).
وأنها العروة الوثقى، كما قال تعالى: "فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا" (البقرة،آية:256).
ومن فضائلها أن الرسل جميعهم أُرسلوا بها منذرين ومبشرين كما قال تعالى: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ " (الأنبياء ، آية : 25).
إلى غير ذلك من الفضائل التي ذكرت في القرآن الكريم وأما ما ورد في فضلها في السنة المشرفة فكثير جداً نذكر منه بعضها:
ـ فمن ذلك أنها أعلى شعب الإيمان فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق .
ـ ومن فضائلها أن الجهاد أقيم من أجل إعلائها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذ فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله .
ـ ومن فضائلها أنها ترجح بصحائف الذنوب كما في حديث البطاقة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئاً أظلمك كتبي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: ألك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول أحضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء .
ثالثاً: أفضل الذكر لا إله إلا الله:
إن ذكر الله من أجل العبادات المقربة إلى الله تعالى وأجلّها وأعظمها أجراً، مع سهولته ويسره على من يسرّه الله عليه هذا وإن أفضل أنواع الذكر بعد القرآن العظيم هو قول المرء: لا إله إلا الله وهي كلمة التوحيد، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:أفضل الذكر لا إله إلا الله ،وهذه الكلمة الجليلة واجب على كل مسلم أن يتعلمها ويعلم مضمونها ومعناها وشروطها وأركانها وكل ما يتعلق بها لأنها الكلمة التي يعير بها المرء مسلماً، فهي الفيصل بين الكفر والإسلام، ولأن الله جل جلاله أمر أفضل خلقه وخاتم رسله صلى الله عليه وسلم أن يعلم كل ما يتعلق بها ويعتقده في قوله: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" (محمد ، آية : 19).
وقد ذم الله سبحانه من استكبر عنها وأعرض عنها وترك العمل بها في قوله :" إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ" (الصافات ، آية : 35 ـ 36).
ووصف الله سبحانه نفسه بما تضمنته هذه الكلمة في غير موضع من كتابه فقال: "اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" (البقرة ، آية : 255) وقال سبحانه: " هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " (غافر ، آية : 65) وحققها إبراهيم عليه السلام كما حكى الله عنه بقوله: " إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ" (الزخرف، آية:26ـ 28).
رابعاً: أشعة كلمة لاإله إلا الله، تبدد ظلمات القلوب:
اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها وتفاوت أهلها في ذلك النور، قوة وضعفاً، لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس، من نور هذه الكلمة كالشمس، ومنهم، من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسرج الضعيف ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم، وبين أيديهم، على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علماً وعملاً ومعرفة وحالاً وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى انه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنباً، إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئاً، فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا على غرّة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سُرق منه استنقذه من سارقه أو حصّل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبداً مع لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره .
خامساً: التوافق بين لا إله إلا الله "وإياك نعبد":
إن معنى لا إله إلا الله تضمنه قوله :"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" (الفاتحة، الآية:5) وهذه الآية متضمنة لأجل الغايات، ففيها يسر الخلق والأمر، والدنيا والآخرة، وهي متضمنة لأجل الغايات وأفضل الوسائل فأجل الغايات عبوديته، وأفضل الوسائل إعانته، فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجلّ الوسائل.
وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد، وهما توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتضمنت التعبد باسم الرب واسم الله، فهو يعبد بألوهيته، ويستعان بربوبيته، ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته، فكان أول السورة ذكر أسمه: الله والرب، والرحمن تطابقاً لأجل الطالب من عبادته وإعانته وهدايته وهو المنفرد بإعطاء ذلك كله، لا يعين على عبادته سواه ولا يهدي سواه .
سادساً: شروط لا إله إلا الله: لمّا كان معنى لا إله إلا الله هو: أنه لا معبود بحق إلا الله، ولمّا كان كثير من الناس لا يدرك معنى وأهمية لا إله إلا الله: كان لا بدَّ لنا أن نتحدث عن شروط هذه الكلمة.
ورحم الله وهب بن منبه حين سئل: أليست لا إله إلا الله مفتاح الجنَّة؟ قال:بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك ، وهذه الأسنان هي شروط هذه الكلمة العظيمة ، والتي عددها سبعة عند العلماء، وليس المراد من هذا عدُّ ألفاظها، وحفظها، فكم من عامّيّ إجتمعت فيه والتزمها، ولو قيل له أعددها لم يحسن ذلك وكم حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم، وتراه يقع كثيراً فيما يناقضها والتوفيق بيد الله ، وإليك هذه الشروط مع أدلتها من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مع الإختصار:
1ـ العلم بمعناها، نفياً وإثباتاً، علماً ينافي الجهل بها قال الله تعالى: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" (محمد ، آية : 19)، وقال تعالى: "شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (آل عمران ، آية : 18).
وفي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة .
2ـ اليقين المنافي للشك، وذلك بأن يكون قائلها مستيقناً بمدلول هذه الكلمة يقيناً جازماً قال تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" ( الحجرات ، آية : 15).
وقال صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله، لا يلق الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة ، وقال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه: من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة .
3ـ القبول لما اقتضته هذه الكلمة بالقلب واللسان وقد قص الله علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء من قبلها وإنتقامه ممّن ردّها وأباها قال تعالى: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" (الروم ، آية : 47) وقال تعالى: " ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ" (يونس ، آية :102)، وقال تعالى عن الذين كذبوا بهذه الكلمة ورفضوها ولم يقبلوها: "فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" الزخرف، آية :25).
وقال صلى الله عليه وسلم: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا، وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعمل، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به .
4ـ الانقياد لما دلت عليه المنافي لترك ذلك: قال الله سبحانه وتعالى: "وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ" (الزمر ، آية : 54)، وقال تعالى: " وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ" ( النساء ، آية : 125).
5ـ الصدق المنافي للكذب، وذلك بأن يقولها صدقاً من قلبه يواطئ قلبه لسانه قال تعالى: "الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" (العنكبوت ، آية : 1 ـ 3).
وقال صلى الله عليه وسلم: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرّمه الله على النار .
6ـ الإخلاص وهو تصفية العمل لصالح النية عن جميع شوائب الشرك، قال تعالى: "أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ" (الزمر ، آية: 3)، وقال تعالى ((فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ" ( الزمر ، آية : 2)، وقال تعالى: " وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ" (البينة ، آية : 5).
وقال صلى الله عليه وسلم: أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه ، وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله حرّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله .
7ـ المحبة لهذه الكلمة ولما اقتضته ودلت عليه، ولأهلها العاملين بها الملتزمين بشروطها وبغض ما ناقض ذلك قال تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ" (البقرة ، آية : 165).
وقال صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبُه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار .
وقال صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين .
ومحبة الله سبحانه وتعالى لا تتم إلا بمحبة ما يحبه وكره ما يكرهه وطريق معرفة ذلك هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته، فمحبة الله تستلزم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه وطاعته فهذه الشروط من حققها وعمل بها وابتعد عما يناقضها أوجب له مغفرة الذنوب بإذن الله تعالى .
سابعاً: إرتباط لا إله إلا الله بالولاء والبراء:
ولما كان أصل الموالاة: الحب، وأصل المعاداة: البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنفرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك ، فإن الولاء والبراء من لوازم لا إله إلا الله قال الله تعالى: "لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ" (آل عمران ، آية : 28)، وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (المائدة ، آية 51)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله .
ولقد ضرب نبي الله إبراهيم عليه السلام نموذج السوة الحسنة في ولائه لرب العالمين حيث كان عليه السلام أسوة حسنة وقدوة طيبة في ولائه لربه ودينه وعباد الله المؤمنين وبرائه ومعاداته لأعداء الله ومنهم أبوه،لقد كانت سيرة نبي الله ابراهيم عليه السلام مع قومه، كأي نبي رسول، حيث دعاهم بالتي هي أحسن إلى عبادة الله وتوحيده، وإفراده بالعباد